خلافة أبى بكر الصديق
(11 - 13 هـ / 632- 634م ) تمت البيعة لأبى بكر، ونجح المسلمون: الأنصار والمهاجرون فى أول امتحان لهم بعد وفاة الرسول، لقد احترموا مبدأ الشورى، وتمسكوا بالمبادئ الإسلامية، فقادوا سفينتهم إلى شاطئ الأمان.
وها هو ذا خليفتهم يقف بينهم ليعلن عن منهجه، فبعد أن حمد الله وأثنى عليه، قال: "أيها الناس، إنى قد وليت عليكم ولستُ بخيركم، فإن أحسنت فأعينونى، وإن أسأت فقومونى (ردونى عن الإساءة)، الصدق أمانة، والكذب خيانة، والضعيف فيكم قوى عندى حتى آخذ له حقه، والقوى ضعيف عندى حتى آخذ منه الحق إن شاء الله تعالى، لا يدع أحد منكم الجهاد، فإنه لا يدعه قوم إلا ضربهم الله بالذل، ولا تشيع الفاحشة فى قوم قط إلا عمهم الله بالبلاء، أطيعونى ما أطعت الله ورسوله، فإذا عصيت الله ورسوله فلا طاعة لى عليكم، قوموا إلى صلاتكم يرحمكم الله" (ابن هشام).
كان الإسلام فى عهد النبى قد بدأ ينتشر بعد السنة السادسة للهجرة، وبعد هزيمة هوازن وثقيف بدأت الوفود تَرِد إلى الرسول معلنة إسلامها، وكان ذلك فى العام التاسع!
جهاد أبى بكر
لقد دخل الناس فى دين الله أفواجًا، وقلَّ عدد المشركين الذين يعبدون الأصنام، وطهرت الجزيرة العربية من الشر، لكن بعض الذين دخلوا فى الإسلام كان منهم ضعاف الإيمان، ولم يكن الإيمان قد استقر فى قلوبهم، وقد دخله بعضهم طمعًا فى الأراضى والأموال.
وكانت وفاة الرسول فرصة لهؤلاء وأولئك لكى يظهروا ما أخفوه خلال الفترة الماضية، ولكى يعلنوا ردتهم عن الدين الحنيف، فماذا يفعل الصديق، والخلافة فى أول عهدها ؟!
إن هناك جماعة منعت الزكاة، وأخرى ارتدت، بل ادعى بعض الناس منهم النبوة !
جيش أسامة
لقد كان على أبى بكر -رضى الله عنه- أن يواجه هؤلاء جميعًا. وليس هذا فقط بل كان عليه أن يؤمِّن حدود الدولة الإسلامية ضد الأعداء الخارجيين، وكان الرسول قد أعدَّ لذلك جيشًا بقيادة أسامة بن زيد، ولكنه مات قبل أن يبرح الجيش المدينة، وظل أسامة بجيشه على حدود المدينة ينتظر الأوامر!
وراح الجميع يفكرون فى مواجهة أعداء الأمة الإسلامية الوليدة!
وكان رأى بعض المسلمين أن توجه كل الجهود إلى محاربة المرتدين، وأن يؤجل إنفاذ جيش أسامة لمحاربة الروم إلى ما بعد القضاء على المرتدين، وأن يتفرغ أبو بكر لذلك، ولكن أبا بكر وقف شامخًا راسخًا، يؤكد العزم على قتالهم جميعًا فى كل الجبهات، قائلا عن مانعى الزكاة: "والله لو منعونى عِقَال بعير (ما يربط به البعير) كانوا يؤدونه إلى رسول الله لقاتلتهم عليه" [متفق عليه].
ولقد أصر أن يتم بعث أسامة قائلاً: "والله لو ظننت أن السباع تخطفنى لأنفذت بعث أسامة كما أمر الرسول" (ابن كثير).
حملات عسكرية
وأعد أبو بكر -رضى الله عنه- إحدى عشرة حملة عسكرية، كان من أشهرها: حملة خالد بن الوليد، وحملة العلاء بن الحضرمى.
جيش العلاء بن الحضرمى
كان ملك البحرين، قد أسلم فى عهد الرسول، وأقام فى رعيته الإسلام والعدل، وعندما مات رسول الله ومات ملك البحرين، ارتد أهل البحرين، وقال قائلهم: لو كان محمد نبيّا ما مات.
وبقيت بالبحرين قرية يقال لها جُوَاثا ثابتة على دينها، فقد قام فيها رجل من أشرافهم وهو الجارود بن المعلى، وكان ممن هاجروا إلى رسول الله، فقال: يا معشر عبد القيس إنى سائلكم عن أمر فأخبرونى إن علمتموه. قالوا: سَلْ. قال: أتعلمون أنه كان لله أنبياء قبل محمد؟ قالوا: نعم. قال: تعلمونه أم ترونه؟ قالوا: نعلمه. قال: فما فعلوا؟ قالوا: ماتوا. قال: فإن محمدًا مات كما ماتوا، وإنى أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله. فقالوا: ونحن أيضًا نشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله. وثبتوا على إسلامهم" (ابن كثير).
وأرسل أبو بكر العلاء بن الحضرمى أحد كبار الصحابة إلى حرب المرتدين من أهل البحرين، وكان العلاء على معرفة بأحوال هذه البلاد لأن الرسول كان قد أرسله ليجمع الزكاة من أهلها.
وحدث فى هذه الغزوة أن نزل العلاء منزلاً فلم يستقر الناس على الأرض حتى نفرت الإبل بما عليها من زاد الجيش وخيامهم وشرابهم، وبقوا على الأرض ليس معهم شىء سوى ثيابهم، وذلك ليلاً، ولم يقدروا منها على بعير واحد، فأصاب الناس همٌّ عظيم وجعل يوصى بعضهم إلى بعض، فنادى منادى العلاء، فاجتمع الناس إليه، فقال: أيها الناس، ألستم المسلمين؟ ألستم فى سبيل الله؟ ألستم أنصار الله؟ قالوا: بلى. قال: فأبشروا والله لا يخذل الله مَنْ كان فى مثل حالكم. ونودى لصلاة الصبح حين طلع الفجر، فصلى بالناس، ثم جثا على ركبتيه، وجثا الناس، واستمر فى الدعاء حتى طلعت الشمس، وجعل الناس ينظرون إلى سراب الشمس يلمع مرة بعد مرة، وهو يجتهد فى الدعاء، فوجدوا إلى جانبهم غديرًا عظيمًا من الماء، فمشى ومشى الناس إليه فشربوا واغتسلوا، فما انتهى النهار حتى أقبلت الإبل من كل مكان بما عليها لم يفقدوا شيئًا من أمتعتهم